قديما قال هيرودوت المؤرخ الإغريقي عندما زار مصر ولشدة إعجابه بها وبنيلها وبواديها قال قولته المشهورة إن مصر هبة النيل، وهذا الرجل كان وثنيّا فله أن يقول ما يشاء، أما نحن فلا يحق لنا أن نقول مثل هذا القول لأن النيل هبة من الله وما يستتبعه من خير وبركة لا يجوز نسبته إلا إلى الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله)، لكن الذي جعلني أتذكر مقولة هيرودوت بعدما سمعت كلمة مدير الكلية الحربية اللواء أركان حرب عصمت مراد أثناء حفلة لتخريج دفعة جديدة من طلاب الكلية الحربية قائلا: إن طلاب الكلية الحربية يعرفون تماما أنهم قادة المستقبل وأنهم الوزراء والمحافظون والسفراء ورؤساء الجمهورية والمديرون بفضل تضحياتهم وعملهم الجاد.
قلت إذا مصر هي هبة العسكر وليست هبة النيل كما زعم هيرودوت واندهشت كثيرا لكلمة مدير الكلية الحربية وسألت نفسي هل هذه الكلمة عفويه صدرت منه هكذا وربما لا يقصد! وهو في حالة من الزهو والنشوة وهو يرتدي بزته العسكرية مع زعيم عصابة الانقلاب ولكن سرعان ما زال هذا الاندهاش عندما استدركت بأن الرجل يعبّر عن واقع مأساوي تعيشه البلاد منذ انقلاب يوليو المشئوم 1952 وحتى يومنا هذا؛ فالعسكر فعلا هم من يمسك بزمام الأمور فهم الرؤساء والوزراء والمحافظون والسفراء ورؤساء الأحياء وهم رؤساء مجالس إدارات الشركات القابضة والكبرى وحتى البنوك ومحو الأمية وهيئات المباني وكل المؤسسات الحيوية في البلاد.
وقد يقول قائل وما الجديد في الأمر إذا؟ الجديد في الأمر هو الإعلان والتصريح عن الفاشية العسكرية والطبقية بدون خجل أو حياء. وأن طبقة العسكر ومن يساندهم من الشرطة والقضاء الشامخ والإعلام الفاسد ورجال أعمال المال الحرام.. إنهم يتعاملون بمنطق أحمد الزند وينتهجون منهج الطبقية والفاشية وأنه لا مكان للعدالة الاجتماعية وأنها ليست من أولوياتهم في تعاملهم مع الشعب.
هذه الفاشية التي لخصتها كلمة وزير العدل السابق في حكومة الانقلاب والذي أعلن عن عدم أهلية ابن جامع القمامة بأن يكون قاضيا أو وكيلا للنيابة أو أن يشغل أي وظيفة مرموقة حتى لو كان من المتفوقين.
وبعد تصريحات مدير الكلية الحربية تأتي تصريحات رئيس وزراء الانقلاب البائسة والتي تحطم آمال الشباب في الالتحاق بوظيفة حكومية تؤهله لمنصب كبير في المستقبل وقام بتوجيههم بالعمل كسائقي توك توك أو الالتحاق بالأعمال الحرفية كالنجارة والحدادة لأن الوظائف الحكومية انتهت.. على حد زعمه.
ولكن ما لفت نظري فعلا خلال كلمة مدير الكلية الحربية أنه لم يتحدث عن المهمة الحقيقية لضباط الجيش من خريجي الكلية الحربية وأنها حماية الحدود والثغور والدفاع عن البلاد ضد أي خطر يتهدد سلامتها، بل يطالب الخريجين بأن يكونوا مجموعة من المرتزقة يحافظوا على مصالحهم ومكتسباتهم ضد الشعب، وأن ضباط الجيش وحسب فكر يوليو العقيم أنهم يصلحون لكل المهام إلا مهمة الدفاع عن البلاد، والدليل هزائمهم المتكررة من 56 إلى 67 وانسحاب الجيش من مهمته الرئيسية إلى صناعة المكرونة والبيتي فور والكعك والمنظفات الصناعية وتسمين العجول وحليب الأبقار، مستغلا المجندين في أعمال السخرة في مصانع ومزارع الجيش!