نجحت ماكينة الإعلام المصري _ فيما أرى _ في أن تمسخ ملايين المسالمين و تحيلهم , بأداء أكروباتي عجيب , إلى مراجل ممتلئة بالحقد الأسود و مهيأة للانفجار الموتور مع أول خيط لحديث متبادل أو نقاش عابر ! و لم يعد مستغربا أن نجد صيدليا وقورا مسالما قد علق , مع أرفف الأدوية , لافتة : ( ممنوع الكلام في السياسة) مخافة أن تتهشم واجهة صيدليته إذا ما احتدم الجدل السياسي بين الزبائن بعد أن نجح الإعلام في تغذية فضاء هذا الجدل الذي كان بإمكاننا أن نجعله صحيا , بوقود مسموم أحنق النفوس و ضيق الصدور و استنفر أحط الغرائز السادية ! و لم تكتف الماكينة الإعلامية الدائرة بذلك بل تجاوزت إلى التحريض العلني علي الإفناء المتبادل في الشوارع ! و هي النقطة التي تماهت عندها هذه الماكينة المنفلتة من كل وازع مهني أو أخلاقي مع تجربة ( أدولف هتلر ) الذي أثبت له المؤرخون القدرة علي ما أسماه باحث معاصر : ( تبسيط مشاعر الكره ) و تسويقها من خلال حزم هائلة من الأكاذيب إلي السواد الأعظم من الناس بما يشبه العدوى ! لقد نجحت جوقة الصراخ في مدينة الإنتاج الإعلامي , بحناجر فاجرة لا تعرف سقفا ولا تفكر في مساءلة محتملة في أن تلحم أطراف المعادلة ( الهتلرية / الجوبلزية ) , بسرعة عجيبة , لتنتج في النهاية مخرجات متداخلة أساسها _ كما سلف _ ( تبسيط مشاعر الكره ) , بمعنى نقلها من الإطار النخبوي إلي شرائح شعبية واسعة . و قد نوهت في المقالة السابقة بهذا البحث الدقيق الذي قام علي إعداده صفوة من الأكاديميين و الإعلاميين أطلقوا على أنفسهم : ( إعلاميون مراقبون / رد ) , حيث سجلوا في بحثهم المعنون : ( 2014 _ عام من التضليل و الكذب الإعلامي و الصحفي ) , مائة و خمسة عشر تجاوزا مهنيا خطيرا باشرها الإعلام المصري عبر عام . وكلها يندرج في باب جرائم المهنة ! و قد قدمت في المقال السابق أمثلة حية من هذه التجاوزات التي أوردها البحث , بالتقصي الدقيق , و لا بأس أن أزيد القصيدة _ في هذا المقال_ بيتا أو أبياتا للتأمل و الاعتبار ! ومن أسف أن قائمة المواقع و الصحف و الفضائيات المصرية , التي أوردها البحث تضمنت تجاوزات ارتكبتها ( وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية ) ذاتها و يفترض فيها أدق شروط الأداء المهني السليم ! ففي الرابع من يناير من عام 2014 , نشرت الوكالة خبرا مفاده أن ( مجهولين ) ( اقتحموا مطعما بمحافظة البحيرة يمتلكه أحد الإسلاميين ) و أضافت الوكالة أن ( مديرية أمن البحيرة دفعت بتشكيلات الأمن المركزي للوقوف أمام المبني لحماية العاملين بالمطعم من غضب الأهالي ) . و قد توقف البحث _ في تحليله _ أمام كلمة ( الأهالي ) , حيث أكد التحليل المضموني الدقيق أن خبر الوكالة أراد , في نهاية الأمر , بطريقة مفضوحة , ( تفريق الجريمة بين من أسماهم ( الأهالي ) دون تحديد جان أو جناة ! و في الثالث عشر من العام نفسه ظهرت ( لميس جابر ) علي قناة ( دريم ) لتؤكد , بطريقة استفزازية , أن ثورة 25 يناير كانت ( لعب عيال و سطوا مسلحا علي البلد ! ) غير مبالية بإشعال عود الثقاب بين شرائح واسعة من المتعاطفين مع 25 يناير : الثورة و الرمز و الحلم ! و في الثاني عشر من إبريل ارتكبت ( الوطن ) جريمة مخجلة بنشر صورة لطفلة تعرضت لحادث اغتصاب . و أكد البحث في تحليله أن ما اعتبرته ( الوطن ) : ( سبقا ) كان جريمة مهنية غليظة من شأنها تدمير مستقبل هذه الطفلة إلي الأبد ! و في السادس و العشرين من يناير من العام ذاته ظهر ( إبراهيم عيسي ) على قناة ( On T V ) ليطلق سيلا من الشتائم غير المحتملة من عائلة : ( أولاد العاهرة _ أولاد النجسة …) محاولا بمكر شديد نسبتها بالعموم إلي ( التغريدات ) ! و في الخامس عشر من أغسطس مضي موقع ( اليوم السابع ) في التأسيس المكشوف لفكرة التحريض علي القتل _ بحسب رؤية البحث _ بخبر مفاده أن ( شائعات تسري في الأوساط الشعبية تتحدث عن تشكيل تنظيم : ( الثأر لمصر ) للانتقام من إرهاب الإسلاميين ) . و و تساءل البحث _ في تعقيبه _ : منذ متي كانت الشائعات مصادر صحفية ؟ ! و لماذا لم يظهر هذا التنظيم فعليا فيما بعد ؟! و الأخطر , فيما يري البحث , أن فحوي الخبر يحمل تهديدا مباشرا للسلم المجتمعي ! و في الخامس عشر من أكتوبر انفجرت فضيحة ( الأهرام ) المخجلة حين مضت في ترجمتها العربية , في تحريف مقالة ( ديفيد كيركباترك ) في ( نيويورك تايمز) لتجعل منه , علي غير الحقيقة , مديحا سخيا للرئيس ! و ترسخت ورطة المؤسسة الصحفية الأعرق حين أصرت ( النيويورك تايمز ) علي تكذيب ( الأهرام ) علنا مؤكدة أن كاتب المقال لم يقل حرفا واحدا مما نشرته الصحيفة الأعرق في الوطن العربي !! و إذا كان الصحفي الكبير ( روبرت فيسك ) قد تحدث عما أسماه : ( إعلام الفنادق ) , في إشارة إلي الصحفيين الذين تولوا مهمة التغطية الإعلامية لأحداث العراق و تلوين الصورة الأصلية بأحط أنماط التدليس و تزييف الحقائق , فإن بإمكاني _ قياسا علي تعبيره _ الحديث عما أسميه : ( إعلام القبو ) .وهي صيغة صحفية تضيف إلي فكرة العزلة , فكرة المؤامرة و ( نصب الفخاخ ) ! فقبل عامين دعتني إحدي الفضائيات لحوار حول راهن المشهد المصري , و أدارت معي الإعلامية المعروفة د ( نائلة عمارة ) ( أين هي الآن ؟! ) الحوار . و منذ اللحظة الأولي لدخولي الاستوديو لاحظت نظرات الأعين المشفرة ذات المغزي و الحوارات الهامسة التي يجري معها التحضير لمشهد قنص الضيف و حشره , بالإكراه , في خانة وجهة النظر المعلبة التي أرادها البرنامج , إعدادا و تقديما , فضلا عن تعمد قهر الضيف علي الانتظار قبل التسجيل لمدة طويلة لإثارة نقمته و إخراجه عن منطقة التركيز ! و حين من الله _ عز وجل _ علي بتفويت الفرصة علي أطقم البرنامج ( أو أطقم الصيد لا فرق !! ) و انخرطت مع د نائلة في حوار ماراثوني شاق امتد لساعة قلت خلالها ما أريده أنا لا ما تريده هي , و حين رأيت د نائلة تجفف عرقها بإعياء في نهاية اللقاء و لمحت أمارات الخذلان علي وجوه المعدين , كان ميسورا أن أتكهن في التو بأسباب إحباطهم , بعد أن أفلتت الطريدة من عملية القنص بل فسد الصيد برمته . و ترسخت داخلي تدريجيا فكرة ( إعلام القبو ) ! و تواصل مسلسل السقوط في المشهد الإعلامي حين توالت تحريضات ( أحمد موسي ) الدموية التي تتسعر شوقا لرؤية الجثث , و ظهر ( توفيق عكاشة ) و هو يتجشأ علي مسامعنا دون غضاضة , وصولا إلي ( السبكي ) و هو يباشر إطلاق ( الشخرة ) الشعبية الشهيرة علنا أمام الملايين , ليؤكد امتزاج المشاهد المتوالية علي واقع ( إعلامي ) غير مسبوق ’ وصل في انحداره , فعليا , إلي قرارة القاع ! !
المصدر: جريدة المصريون