تختلف معاني الكلمات عندما ترتقي من كونها أوصافا للفرد إلى أوصاف للشعوب..
فالشورى في القرآن عندما صارت وصفا لمجموع المؤمنين “وأمرهم شورى بينهم” تحولت إلى نهج ملزم لا يجوز لحاكم أن يخالفه، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالفه في مواقفه من أحد إلى حنين.. وذلك على الرغم أن أصل الشورى في الخلق الفردي تعني استطلاع رأي آخر دون إلزام..
كذلك هو معنى الانكسار والانتصار، فمعناهما الفردي لا يخرج عن كونه خسارة مائة بالمائة أو ربحا كاملا.. بينما عندما يتعلق الأمر بالشعوب والتحولات التاريخية، فإن الأمر يختلف..
فبحساب المفاهيم الجزئية المرتبطة بالفرد، فإن الثورة الفرنسية سنة 1889 كانت كارثة حاقت بواحدة من أعظم دولتين في مطلع العصر الحديث؛ بينما بحساب المعاني الكلية المرتبطة بالجماعات والشعوب فإن هذه الدولة تجدد شبابها وحافظت على ريادتها بسبب هذه الثورة، كما إن مجموع الشعب جنى ثمارها حقوقا محفوظة وحريات مصونة وقيمة تاريخية وعالمية..
كذلك فإنه البعض ينظر لحركة 1952 بمنظور فردي فيراها تحولا للأسوأ، وهي بالفعل في أمور كثيرة نقلت مصر لدرجة أدنى في الخدمات والوضع الاقتصادي والحقوق والحريات، لكنها حققت معنى شعبي لا يمكن حسابه ضمن حسابات الخسارة، بل يُرجح حسابات الربح وهو الانتقال من مرحلة الاستعمار المباشر، لتصبح مهمة الشعب ليس الاستقلال من احتلال أجنبي وإنما استجماع عناصر استقلال الإرادة وتحقيق الحرية والازدهار، وهي المعركة التي ميّزت أهداف ثورة يناير 2011.
وكذلك فإن معركة العاشر من رمضان، ينظر لها بعض المدونين على صفحات الميديا بنفس المفاهيم الجزئية التي لا تصلح لتقييم أعمال الشعوب، فيراها إما نصرا مجروحا أو هزيمة صريحة، بينما التقييم الحقيقي المعتمد على الرؤية الكلية تضعها في مصاف واحدة من أكبر المعارك وأهمها التي خاضها الجيش المصري منذ اتفاقية لندن 1840 والتي كانت قد فرضت قيودا على حركة وتسليح وتطور الجيش المصري.
بكل بساطة فإن الشعوب تنجز أهدافها على مدى زمني أطول بكثير مما يحتمله عمر فرد واحد، وهو ما يجعل إنجازاتها متفرقة ومتباعدة فيراها البعض تائهة في خضم من الانكسارات فيُعدها – خطأ – انكسارا. بينما لو نظر إليها برؤية شاملة لرآها خطوات وئيدة نحو صورة نصر مكتمل..
هكذا هي ثورة 25 يناير والتي ينظر إليها البعض باعتبارها حدثا انتهى وتبددت آثاره، دون أن يُدرك أن هذا الحدث هو أشبه بحقن تحت جلد الشعوب يتمدد بآثاره الإيجابية ببطء حتى يفرض نفسه على أجهزة الجسم بأكمله، ومن ثم فإن محاولة أجهزة الدولة العميقة الإفلات من تأثيره وإنهاء آثاره، لن يختلف نتيجتها عن محاولات الملكية الفرنسية للعودة ولا عما أدت إليه الثورة المضادة التي قادها ملك فرنسا خلال الفترة من 1889 إلى 1892 من تقوية بنيان الثورة الحقيقية وعودتها في جولة جديدة أكثر قوة، لكنها للأسف كانت أكثر عنفا.
هذا ما لا تحسبه أبدا قوى الثورات المضادة، فهي تنظر تحت أقدامها، معتقدةً أن أدوات القهر ووسائل القتل والتعذيب لأنصار الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية كافية لإزالة آثار الثورات، بينما الحقيقة هي أنها تُعيد بناء الوعي لدى الشعوب وتصنع جيلا مختلفا عن جيل الثورات الرومانسية المتصالحة، لتنتقل إلى حالة ثورات جذرية لا تسمح بمكان فيها لأنصار القديم.
وربما إن وسائل التواصل التي تطورت تطورا مذهلا خلال العقدين الماضيين جعلت من التطورات الاجتماعية والتحولات الكبرى أكثر تسارعا من ذي قبل، فلن تُمهَل أي ثورة مضادة عشرات السنين ولن تنتظر ثورة حقيقة جيلا كاملا لتعاود جولتها؛ فالأشهر في العصر الحديث تُقارن بالسنوات فيما مضى. وربما هذا ما يُفسر استمرار الثورة المصرية على الرغم من القدر الهائل من العنف والإرهاب الذي تستخدمه الثورة المضادة بقيادة أبناء النظام القديم في مؤسسات الدولة؛ كما يُرجح بأن الجولة القادمة للثورة الحقيقية لن تتأخر طويلا بعد أن تجمعت أسبابها بأسرع مما تمنى أنصارها ومما تخوف أعداؤها.
المصدر : متابعات