عندما سمعت بالخبر لم أصدق في البداية .. أصابني الجمود واعترتنى رجفة فى جسدي لم أشعر بها من قبل.. حتى أنني لم أبكي.. لم اذرف دمعة واحدة لمدة ثلاثة أيام ..كان الناس يرونه ثباتا في حين انه لم يكن بيدي ..كنت احاول استجداء الدمع لكنه لم يكن لي مطيعاً حتى خافت علي أمي.
في الثلاثة أيام الأولى لم اكن اشعر بشئ ..فقط لم أكن أنام ولم اتناول طعاما قط سوى بضع رشفات من الماء وملاعق صغيرة من العسل كانت تسقيها لي أمى رغما عنى خوفا من هبوط في الدورة الدموية كانت صديقتي المقربة تمكث معي ..وأخرى تأخذ أبنائي مع أبنائها للتنزه حتى لا يشعروا بشئ خاصة مع جو المنزل المتشح بالسواد.
ثلاثة أيام لم يخل منها المنزل من زائر أو معز قريب أو غريب ..أناس أراهم لأول مره في حياتي لكنهم كانوا يعرفونه من حديث أزواجهم عنه .. لم أكن أريد مقابلة أحد، كنت أريد المكوث في غرفتي بجوار صورته وحقيبته وبعض من بقاياه كانت في نفس الحقيبة ليلتها ..افتح الحقيبة أخرج ما بها .. أشتم كل شئ فيها .. ثم احتضنها طويلا وأغرق في ذكرياتنا التي لا تنتهى .. حتى أظن أني في كابوس وسأفيق منه عاجلا ام آجلاً.
انتهت الثلاثة أيام ..خلي البيت إلا من أمي وابى وإخوتى ..ثم رويدا رويدا أخذت الأيام تمر ثقيلة ثقل الجبال، يمر اليوم وراء اليوم ولا أحد يقرع بابي، ذهب أمى وأبى….انشغل اخوتى بأعمالهم وابنائهم ومسؤلياتهم..انفض عنى اصدقائى منشغلين بحياتهم تارة ومتعللين بأعذار اراها واهية تارة أخرى، لم يعد لدى سوى صديقتي المقربة والتي احسست مع الوقت أنى أسبب لها إرهاقا نفسيا قد لا تتحمله عندما كنت احكى معها عن آلامى.. لم تكن تتململ اطلاقا لكنى كنت ابكى بكاءا مريرا وكانت تجهش معي بالبكاء ..حتى قررت أن اخفف عنها وانقطع عن الحديث معها حول مشاعرى وآلامى وانحصر الحوار فيما بيننا على الحديث عن أخبار الأبناء ودراستهم ومدرستهم ..لم يعد لي سوى ربى لكى أبثه همومى وأحزانى…كنت آوى إلى فراشي ليلا أدعى النوم حتى يخلد أبنائي للنوم وما أن اشعر أنهم قد غطوا في نوم عميق حتى أجد دموعي تبلل وسادتى ..اتقلب فى سريرى يمنة ويسرة باحثة عنه..أضع يدى مكان نومه لأتحسسه .
اشتم وسادته..احتضنها..ثم يزيد بكائى..أمنى نفسى أنه فى سفر طويل وحتما سيأتى ..افتح رسائل الهاتف لأقرأها للمرة الألف ..وأظل على هذا الحال حتى بزوغ ساعات الفجر الأولى ولا يغلبنى النوم إلا والإرهاق قد أكلنى ونال منى.
لم يكن يؤلمنى انصراف أصدقائي عنى بقدر ما كان يؤلمنى اهتمامهم فقط بإرسال طعام أو ملابس أو نقود لأبنائنا..لم يفهموا أنى بحاجة ألى قلوبهم قبل نقودهم.. كما أنى لا أنكر أنى قد وجدت نفسى في مهب الريح بمفردي وأن زوجي الشهيد لم يكن لي زوجا وحبيبا فقط.. بل كان راعيا مسؤلا عن بيته بكل تفاصيله.. لم أكن اعلم ماذا يشترى ولا كيف ولا من أين .. لم يكن يزعجنى بضوائقه في العمل كما لم يشعرني بأي أزمة مادية قط.. حتى وجدتنى أصارع الموج وحدى.
طفلى الصغير يتساءل أين أبى.. لماذا لا يأتي ليأخذني من المدرسة مثل صديقي …أريد ابى مثله.. وعندما صارحه أحدهم بأنه قد قتل جاءنى وهو غاضب يرتجف من البكاء متسائلا من قتله .. .هل حقا الشرطة من قتلته، ألم تخبرينى يا أمى أن الشرطة هي التي تحمى الناس من اللصوص، لماذا كذبت على ؟
وما إن انتهى من تهدئته حتى أجدني في مشكلة ثانية تخص مصاريف الدراسة، ومشكلة ثالثة تخص ميزانية المنزل ومشكلة رابعة تخص إجراءات ترخيص السيارة، وهكذا دواليك.
ينتهى بي اليوم وقد انتهيت .. حتى أتتنى إحدى صديقاتي بعد انتهاء أشهر العدة مصرحة لي بما لم أتوقعه:
هناك من يطلبك للزواج..
لم أعرف ماذا أقول لها.. لم استطع أن ألملم شتاتى حتى لا تنفس.. ثم بادرتنى:
حبيبتى.. لا تشقى على نفسك.. لديك أطفال صغار، وأنت لازلت صغيرة وجميلة، لا تتسرعي في الرد .. اعط فرصة لنفسك لكى تفكري مليا ثم هاتفيني.
تركتني وذهبت .. ذهبت وقد احسست أن سكينا قد شق صدرى.. كيف أتزوج.. كيف أخونه.. كيف أحب غيره.. ومع من سأكون في الجنة معه أم مع الزوج الجديد.
حقا لقد كنت في بادئ الأمر بحاجة لأب يرعى أبنائى لكنى الآن أحتاج إلى أب لهم وزوج لى.. زوج يؤنس وحدتي ،يحادثنى، يشاركنى، يشعرنى بأهميتى لديه، يحمل المسؤلية قليلا عن كاهلي، ويا لها من مسؤلية.
فكرت طويلا.. وعندما هممت بالموافقة تحدثت إلى أمى وأبى وإخوتى ويا ليتنى ما فعلت، قالتها أمي صريحة في وجهى:
ماذا سيقول عنا الناس .. تزوجت فورا بعد انقضاء شهور العدة .. قطعا سيقولون إنك لم تكونى تحبيه.. وماذا سيقول أهله.. كيف ستشعر والدته… ماذا ستقول عنك وعنا ..أننا قد قمنا بخيانتهم !!
ثم تبعها أبى قائلا:
ماذا تحتاجين يا ابنتى.. كل شئ متاح لديك وأي نقود نحن نتكفل بها من الألف إلى الياء.. هل قصرنا معك يا حبيبتي؟
لكن أختي كان لها رأي آخر قالته ورأسها مرفوع :
سيأكل الناس وجوهنا ..زوجة شهيد .. وتتزوج!!! لا حول ولا قوة إلا بالله … كفاك فخرا أنك زوجة الشهيد يا حبيبتي.
إلى هنا انتهى جزء صغير من المأساة يا سادة … تلك لم تكن قصة لزوجة واحدة بل هي معاناة العشرات بل المئات في مجتمعنا.
يستشهد زوجها- وهو عند ربه من الأحياء.. تظل وحيدة دون زوج أو أب أو عائل .. تعانى روحها يوميا مع ذكرياتها وألمها وحزنها.. لا يشعر بها سوى خالقها الذي أحل لها الزواج من بعد شهور العدة.
أسائلكم بربي هل زوجة الشهيد تلك من بنى البشر أم أنها من بنى الجماد.. هل لها الحق في العيش والتنفس والاحساس أم أنها قد كتب عليها الشقاء مرتين.. مرة حينما ظلمت وقتل زوجها ومرة حينما حكمت عليها تقاليد المجتمع البالية بالوفاة وهى لا تزال على قيد الحياة.
لكن البشر لا يرحمون.. لا يعوضوها وإن حاولوا مرارا.. ولا يتركوها لتتنفس.. تختنق من مجتمع ظالم لا يهمه سوى القيل والقال ولا يلقون لشرع الله بالا وكأنما وضع الله شرعه في كتابه الكريم حتى نكتفى به على الأرفف وفى السيارات نتفاخر بحفظه وحمله لكنى آسف حين أقول إن البعض قد صار مثل الذى يحمل أسفارا.
فلتنفضوا أيديكم عن جميع ما لا يخصكم.. ولتدعوا الخلق للخالق.
أنتم لا تدركون معنى الألم الحقيقى .. لا تشعرون بما تشعر به حتى وإن ادعيتم غير ذلك.. لإنه لا أحد سيشعر إلا الذى تجرع من نفس الكأس.
أيها المجتمع البائس.. دع الخلق للخالق ولا تحرم ما أحل الله.
أما أنت أيتها الكريمة فتلك حياتك فافعلي بها ما يحلو لك مادام الله قد أحل لك الزواج من فوق سبع سماوات فلا تلقى بالا للقيل والقال وتوكلي على الحى الذى لا يغفل ولا ينام.
فاطمة المهدي
أستشارية تربوية مصرية