في كل مرة أكتب عن الشيخ حازم أبو إسماعيل، أجدني أكتب عن والده الشيخ صلاح أبو إسماعيل، على عكس الشائع في محركات البحث على الإنترنت، فتكتب اسم الوالد فيظهر لك اسم الابن، إلا من فيديو للأب لمشاركة هنا أو محاضرة هناك!.
كان الشيخ صلاح أبو إسماعيل، عضوًا بمجلس الشعب لدورات عدة، ومنذ عهد السادات، إلى أن وافته المنية في مايو سنة 1990، وقد ملأ الدنيا صخبًا، فعارض السادات، كما عارض مبارك في وقت لم يكن مسموحًا فيه بذلك، حتى وصل به الحال أن أعلن في شهادته بقضية “الناجون من النار” أنه “كافر” وبالاسم. وبعد خمسة عشر عامًا، جاء من يقول على نفسه إنه أول من عارض مبارك !.
لست مشغولًا بإيمان مبارك أو كفره، لكني كنت أكبر في الشيخ شجاعته منقطعة النظير. وقبل عملية التكفير هذه وقف في مجلس الشعب وأعلن رفضه التجديد لمبارك لولاية ثانية، ومن عجب أن الأجيال الجديدة لا تعرف الرجل، الذي قال للسادات في وجهه “بطل كلام فارغ”، عندما قال “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين”، وبعد سنوات من وفاته أعطاه وزير الأوقاف الدكتور زكريا البري ورقة كتبها السادات وهو منفعل لهذا الرد وبخط يده: “يُستدعى زكريا البري وعبد المنعم النمر للرد على صلاح أبو إسماعيل وليمسحوا به البلاط”. وقد صرنا مع الأجيال الجديدة نقوم بتعريفه بأنه والد حازم!.
كانت “القعدة تحلى” في منزل الشيخ صلاح أبو إسماعيل بالدقي، وهو عبارة عن شقة صغيرة حدد يومي الثلاثاء والأربعاء لاستقبال أبناء دائرته، وكان يوم الحشر في المنطقة، حيث “الشاي بالقرنفل” في استقبال أصحاب المظالم، وقد يتطوع أحد الحاضرين فيقوم على خدمة الوفد، وذات يوم طلب مني أن أصطحبه للمطبخ، وعندما هممت لمساعدته أقسم ألا أفعل، قائلًا إنه أراد باصطحابي له أن نتكلم، وقام هو بالمهمة كاملة، ودار في خلدي سؤال، أجاب عنه دون أن أتفوه به، إذ قال إنه في كل مرة يستعين بمن تقوم بذلك، لكن “حمولة ثقيلة وضيوفه كثر” فتعتذر الواحدة تلو الأخرى عن الاستمرار في العمل !.
لقد كان لماحًا بشكل مدهش، فالأسئلة التي تدور في ذهني يجيب عنها بدون طرحها عليه، وفي مواقف مختلفة، وكان هذا الرجل الشجاع في هجومه على المسؤولين ولدرجة تصديه بقوة لأعنف وزير داخلية عرفته مصر هو “زكي بدر”، بعيدًا عن لحظات الغضب، صاحب نكتة، وكثير من النكات سمعتها منه لأول مرة وربما لآخر مرة، فليست نكاته من النوع الشائع والمتداول، وهو ما لا يشاركه فيه نجله الشيخ حازم، والذي كنت أشاهده خجولًا في حضرة أبيه، ورغم أنه ورث عنه هيلمانه الجسدي فلم أشاهده يومًا جالسًا أمامه، حيث يقف في أدب وعينيه على الأرض، ولهذا فقد كنت أظن أنني أكبر منه سنًا قبل ظهوره الثاني في ثورة يناير ووقوفي على أنه يكبرني بخمس سنوات كاملة !.
أحد الحاضرين من أبناء الدائرة، ومن قرى محافظة الجيزة، أخبر الشيخ بأن “حازم” يأتي لمساجد القرية ويلقي دروسًا فيها، وبعفوية قروي قال: “والناس يقولون أنه أفضل من أبيه”، ولمعت عينا الشيخ ونادي على ابنه، والذي وقف أمامه على النحو سالف ذكره، وقال له سعيدًا: يقولون إنك تذهب للدائرة لتنافسني ويقولون إنك تخطب أفضل مني، وحازم يلهث بعبارة واحدة: “العفو يا بابا”، إلى أن انصرف!.
ورث حازم عن والده الشجاعة ووضوح الرؤية، وعدم المناورة، كما ورث الحضور وسرعة البديهة، لكن لم يرث عنه قدراته الخطابية والبلاغية. وقد كان الشيخ تخرج العبارة من فمه، فتبدو أقرب لبيت شعر بليغ، يزيدها حسنًا صوته القوي وقدرته الهائلة على التذوق اللغوي، ولست متأكدًا من أن الشيخ حازم يمكن أن يكون مجلسه في رحابة مجلس أبيه، والذي جعله يتسع لواحد مثلي، لم يكن من مريديه على المستوى الديني، وكان نقدي لتيار الإسلام السياسي معلنًا ومنشورًا، ومع ذلك يصطحبني إلى مطبخه للحديث وهو لم يكن حديثًا مهمًا بدليل أنني بعد كل هذه السنوات لا أتذكره، فواضح أن دعوته ليختصني بحديث وإنما للتسلية وهو يقوم بغسل الأكواب، وإعداد أباريق الشاي لضيوف الغد!.
الظهور الأول للشيخ حازم كان بالنسبة لي عندما خاض الانتخابات لعضوية مجلس نقابة المحامين في سنة 2004، وقد ظهرت صوره في الصحف بلحية بيضاء، وصار أقرب جسمًا لهيئة أبيه، لكن هذه الصورة لم تغير الفكرة المستقرة وهى أني أكبره سنًا، فهناك عوامل وراثية ونحو ذلك تؤثر على ظهور الشعر الأبيض عند البعض وتأخره عند البعض الآخر!.
وظهر بعد هذا كثيرًا على مستوى الوعظ الديني الذي كنت أعلم أنه يمارسه منذ سنوات طويلة وتطور الأمر ليصبح من نجوم القنوات التلفزيونية الدينية، لكني اعتبر أن الظهور الثاني بدأ مع ثورة يناير، وكانت مشكلته بالنسبة لي أن الانطباع القديم: “ابن الشيخ صلاح”، هو المهيمن على تفكيري، كما كانت صورته النمطية لدى الدعاة السلفيين جعلتهم ينظرون إليه على أنه واحد مثلهم لا يصلح للحكم أو للسياسة في هذه الأجواء، ومن هذا الباب دخل المجلس العسكري ليحرضهم عليه ويتلاعب بهم ويكسبهم بخضوع المتحدثين العسكريين بالقول!.
كان الخطاب الإخواني ينفي علاقته التنظيمية بالجماعة، وتطورت نظرتي له، فهو عندي بالهيئة والرسم، رجل سلفي، قبل أن أتذكر أنه انضم لتنظيم الإخوان المسلمين، وهو ما سمعته من والده، الذي قال ضاحكًا، ظللت أقول إن الأخوان لو أغلقوا في وجهي الباب لقفزت عليهم من الشباك، فقفزوا هم وجندوا “حازم”!.
وبدت شعبية حازم تزداد، وتربك المشهد الثوري كله، ففي حين هرول الجميع إلى المجلس العسكري، ومن كل القوى، يبتغون منافع لهم، كان هو يحذر من انقلاب عسكري على الثورة، وقبل هذا وعندما تنحى مبارك وعين المجلس العسكري خليفة له، حذر من تأييد هذه الخطوة، لكن حشود المحتفلين في ميدان التحرير وفي كل شوارع وميادين مصر، مثلت أجواء هستيريا لم تكن لتسمع لصوت العقل ولرجل جاء من أقصى المدينة يسعى !.
كانت كل التوقعات تقول إن الشيخ حازم هو الأوفر حظًا في الفوز بالانتخابات الرئاسية، وأنه قادر على حسمها من الجولة الأولى، وهدد المشير محمد حسين طنطاوي جلساءه – الذين كذبوا حتى صدقوا أنفسهم بأن الجيش هو من حمى الثورة وأجبر مبارك على الرحيل- بأن حازم لو ترشح فلن تكون هناك انتخابات رئاسية أبدًا !.
لا أسلم بادعاء أن والدة الشيخ حملت الجنسية الأمريكية، كما لا أدعي أن عندي معلومات تنفي ذلك، لكن ما أعلمه أن النص في التعديلات الدستورية بعد الثورة على من شروط الترشح ألا يكون أحد الوالدين قد حملا جنسية دولة أخرى، بدا لي نصًا مفتعلًا، وهو مستحدث ولا وجود له في كل الدساتير القديمة، وبدا من وضعوه يحتاطون لحالة بعينها!.
وقد تم استبعاد الشيخ حازم فعلًا من الترشيح وبمباركة كثير من المشايخ الذين خضع لهم المجلس العسكري بالقول، وبالترحيب المبالغ فيه، وأيضًا بترحيب القوى الأخرى التي وإن كانت تملك أن تزايد على الإخوان، فلا يمكنها أن تزايد على “حازم أبو إسماعيل”، فهو لم يقل الشرعية للبرلمان وليس للميدان، وهو وأنصاره كانوا حاضرين في أحداث محمد محمود، وعندما كانوا يأنسون بالجلوس مع رئيس الوزراء القادم من لجنة السياسات عصام شرف، ومع عبد الفتاح السيسي، كان هو يحذر من انقلاب عسكري على الثورة.
وقد أصبح الشيخ حازم يمثل عقدة نفسية للجميع ممن تركوا مواقعهم في الثورة، وذهبوا لجمع الغنائم، فجاء العدو من فوقهم ومن أسفل منهم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر!.
وكان من الطبيعي أن يكون قرار الانقلاب المبكر هو اعتقال حازم أبو إسماعيل فالجميع يدفعون ثمن غفلتهم وهو يدفع ثمن وعيه.
فمن يريد من الإخوان أن يعتذروا له، عليه أن يعتذر أولًا للشيخ حازم.
كاتب وصحفي مصري
azouz1966@gmail.com
المصدر: الراية القطرية